سورة النور - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النور)


        


{إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14)} [النور: 24/ 11- 14].
هذه الآيات الكريمة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ودحض الافتراء الشنيع، وهي تبدأ في بيان القصة من أولها، وأولها: إن الذين فعلوا هذا الفعل جماعة محسوبون على المؤمنين، وهؤلاء الجماعة أتوا بأبلغ الكذب، وأعظم الافتراء، وهو الإفك، الذي كان وراءه ثلاثة بزعامة منافق، وهو عبد الله بن أبي، فإنه هو الذي اختلق الكذب على السيدة عائشة رضي الله عنها، وتواطأ مع جماعة صغيرة لترويج الخبر بين الناس، وإشاعته قريبا من شهر، حتى نزل القرآن الكريم مبينا أسبابه ودروسه ونتائجه.
واسى الله تعالى أسرة أبي بكر في هذه التهمة المفتراة فقال: لا تظنوا يا آل بكر بأن ذلك الافتراء شر محض لكم، وإساءة إليكم، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة، لإظهار مدى العناية بعائشة بنت الصدّيق رضي الله عنها، حين برأها الله في القرآن العظيم، وجعله حكما ونصا يتلى إلى يوم القيامة، ومن أجل كسبكم الثواب العظيم به في الدار الآخرة.
وأما دعاة الفتنة فلكل واحد تكلم في هذه الفرية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، فله نصيب من العذاب الشديد، بقدر ما خاض فيه.
والذي تحمل معظم الإثم منهم: هو عبد الله بن أبي زعيم المنافقين، له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، فإنه أول من اختلق هذا الخبر، ومعظم الشرّ كان منه، أما عذابه في الدنيا: فبإظهار نفاقه ونبذه من المجتمع، وأما في الآخرة: فهو في الدرك الأسفل من النار.
ثم أدّب الله تعالى المؤمنين بمناسبة هذه القضية وزجرهم بتسعة أشياء: أذكر منها هنا أدبين وأمرين خالفوا بهما أحكام التشريع الأساسية. وهما: هلا حين سمعتم أيها المؤمنون كلام الأفاكين في أم المؤمنين عائشة، ظننتم بها خيرا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن! وهلا بادرتم إلى القول صراحة: { هذا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي كذب مختلق، واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي الله عنها! فإنها جاءت راكبة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش كله يشاهد ذلك، ولو كان فيه شيء من الريبة، لما تم الأمر هكذا جهارا نهارا.
وهلا أتى الأفاكون على ما قالوا بأربعة شهود، يشهدون على ثبوت التهمة، وصحة المعاينة، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون، وهذا من الزواجر، ومن التقصير في القيام بعبء الإثبات، عملا بالقاعدة الكبرى: «البيّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر».
تأثيرات قصة الإفك في المؤمنين:
إن الاتهام الرخيص سرعان ما يتبدد ويزول أثره، ولا سيما إذا تولى الله تعالى بنفسه الدفاع عن سمعة المؤمن، وحماه وبرّأه، وقد كان لقصة الإفك أبعاد أو أحكام تنفيذية سريعة: وهي أن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي أرجئ عذابه، فكان العذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة، وأن حسّان ومسطحا وحمنة بنت جحش أقيم عليهم حد القذف، وأن الذين أشاعوا الخبر لامهم الله تعالى لوما شديدا، ووبخهم توبيخا مهينا، وهدّدهم بالعذاب، وعلّمهم الوحي الإلهي وجوب الالتزام بآداب معينة، أذكر منها هنا ستة، كلها ذات وقع شديد، وتتضمن التهديد والوعيد، قال الله تعالى مبينا هذه التأثيرات لقصة الإفك:


{وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)} [النور: 24/ 14- 20].
المعنى: لولا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة، ولولا رحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعجّلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك، وهذا من الزواجر أيضا.
- ولولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب حين تلقيتم أو تلقفتم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه، وإكثار الكلام فيه، وقولكم ما لا تعلمون، وظنكم ذلك أنه أمر سهل يسير، وهو في حكم الله عظيم الخطر، ومن الكبائر. وهذا من الزواجر كذلك وعتاب على تناقل الأخبار، والإفاضة في الحديث، وإشاعة الكلام.
- وهلا حين سمعتم ما لا يليق من فحش الكلام وخبث المقال قلتم: ما ينبغي وما لا يصح لنا ولا يحل أن نتفوه بهذا الكلام، ونخوض في عرض النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فالعقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، وهذا تأديب جم، وعتاب لجميع المؤمنين بأنه كان ينبغي عليهم إنكار هذا المقال وترك حكايته ونقله، وأن يحكموا عليه بالبهتان:
وهو أن يقول الإنسان في غيره ما ليس فيه. ويحذر الله المؤمنين من العود لمثله، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا في المستقبل، ما دمتم أحياء مكلفين، وكنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه، وتعظيم رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، ويوضح الله لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية، والله تام العلم بما يصلح عباده، وكامل الحكمة في شرعه وقدره وتدبير شؤون خلقه، وهذا من الزواجر العظام.
- وإن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة في أوساط المؤمنين لهم عذاب مؤلم في الدنيا، وهو حد القذف، وفي الآخرة لهم عذاب النار، والله يعلم بحقائق الأمور علما تاما، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص علمكم لا تعلمون تلك الحقائق.
- ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، لكان أمر آخر، أي لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم، ولكنه تعالى رؤف بعباده، رحيم بهم، فتاب على التائبين من هذه القضية، وأرشد إلى ما فيه الخير، وهدى إلى الطريق القويم، وأبان خطر هذا الفعل الشنيع، وهو الطعن بعرض بيت النبوة.
لقد تضمنت هذه الآيات في بدايتها وخاتمتها بيان سبق الرحمة الإلهية، وإسباغ الفضل الإلهي على الفئة التي تورطت في ترداد الأخبار الملفقة، وتناقل الحديث من لسان إلى لسان، وما بين البداية والنهاية لوم وتقريع، وعتاب وتوبيخ، وأن مجرد التحدث في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إيذاء كبير للنبي وزوجه ولآل أبي بكر. فيكون الخوض في مثل هذا ممنوعا، ويحتاج مثله إلى التثبت والروية، وتبيّن الحقيقة، كما قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أو {فتثبتوا} [الحجرات: 49/ 6].
التحذير من آثار قصة الإفك:
كان لآثار قصة الإفك آثار تربوية عظيمة، ونتائج إنسانية سامية، وأهمها ثلاثة:
التحذير من اتباع خطوات الشيطان أو وساوسه، وتدنيس سيرة المتورطين في هذا الذنب وإساءة سمعتهم، وحث أبي بكر على مواصلة مسطح ابن خالته، على الرغم من اشتراكه في ترويج أباطيل زعيم المنافقين: عبد الله بن أبي، وتجاوز هذه الآثار كان بفضل من الله ومغفرة وعفو عن المسيئين، وبه تنتهي فتنة ابن أبي التي روّجها بين المسلمين، فقال الله تعالى معددا هذه الآثار:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 24/ 21- 22].
- هذا خطاب لجميع المؤمنين، مطلعه التحذير من وساوس الشيطان، ومضمونه لا تمشوا في سبل الشيطان وطرقه وأفعاله الخبيثة، ولا تسمعوا لوساوسه، فإن من يتبع وساوس الشيطان خاب وخسر، لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء (وهو ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبحه العقل ونفر منه) فلا يصح لمؤمن إطاعة الشيطان، وهذا نهي لكل المؤمنين في كل زمان، وخوطب المؤمنون بهذا ليتشددوا في ترك المعاصي، ولئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.
- وكرر الله تعالى تأكيد منّته وفضله على عباده، فلولا تفضل الله على المؤمنين بالنعم ورحمته السابغة، بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، ما طهّر أحدا من ذنبه، ولا خلّصه من أمراض الشرك والفجور، والأخلاق المزدولة، وإنما عاجله بالعقوبة، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 16/ 61].
ومن فضل الله تعالى أنه يطهر من يشاء من ذنبه بقبول توبته، وتوفيقه إلى ما يرضي ربه، ومن ذلك قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من أهل الإفك، والله سميع لأقوال عباده، عليم بمن يستحق الهدى والضلال، وبجميع الأقوال والأفعال، وهذا حث على التوبة المخلصة من كل الذنوب.
وآية {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ} نزلت في أبي بكر حيث حلف على ألا ينفق على قريبه ابن خالته الفقير مسطح، وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه وعلى أقاربه.
والمعنى: لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، وأصحاب السعة في المال والثراء: ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا، وهذا حث على صلة الرحم، وتلك الصلة عمل إنساني كريم مبارك.
وليعف الأغنياء والأقوياء عن المسيء، وليصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، فإن من أخطأ مرة لا يشدد عليه في العقاب.
ألا تريدون أن يغفر الله لكم، أي يستر عليكم ذنوبكم، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما يغفر الإنسان ذنب المذنب يغفر الله له، وكما يصفح المرء عن المسيء يصفح الله عنه، والله تام الرحمة، وواسع المغفرة لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم، فلا يعذبهم بزلة حدثت، ثم تابوا عنها. وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصديق إلى القول: «بلى والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا» ثم أعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه، وقال: «والله لا أنزعها منه أبدا».
جزاء القاذفين في الآخرة:
إن الذين يقدحون في أعراض أهل العفة والصون من المؤمنات والمؤمنين يرتكبون جرما عظيما، وإثما كبيرا، يستحقون بموجبه العقاب في الدنيا والآخرة، وجاء الوعيد على ذلك بمناسبة قصة الإفك، وتورط بعض الناس بقذف السيدة عائشة رضي الله عنها، والوعيد لا يقتصر عليها، بل يشمل جميع أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، غلّظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين، فلعن قاذفهن، ولم يقرن بآخر الآية توبة.
وقال جماعة من العلماء: بل هي في شأن عائشة رضي الله عنها إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة، قال الله تعالى مبينا خطورة القذف، أي رمي النساء كذبا بالفاحشة:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7